* غادرنا، ولم نتَّفق. كان يرى أن كل مَن يدخل عالم الفن فنانٌ، كل مَن يغني فنانٌ، وكل مَن يمثِّل فنانٌ، فالفن طريقٌ، يعطي صفته لمَن يسير عليه، وقد كنت أرى أن الفنان، هو الذي يقدم شيئًا متميزًا. كنت أرى أن هناك مغنين، وأن هناك مغنين فنانين، وأن هناك ممثلين، وممثلين فنانين. كان يرى أن مجرد اختيار طرق الفن، هو فنٌّ، وكنت أرى في رؤيته ظلمًا للمبدعين الحقيقيين. كان من الناس الذين يحلو المقهى بوجودهم. لم أسمعه يومًا يقول في شخصٍ ما كلامًا سيئًا. كان من الذين ينتصرون دائمًا على مزاجهم، ولا يسمحون له بالتقلُّبات، لذا كان شخصًا متزنًا، بل وبطل الاتزان. جمعنا المقهى كثيرًا، وفرَّقتنا الأيام طويلًا. يا تُرى هل ما زال يعتقد أن كل مغنٍّ مشهورٍ يستحقُّ لقب فنانٍ؟
* لم أره يومًا في غير تلك الطاولة، وكأنَّها خصِّصت له. بعد مدةٍ، علمت أنه يأتي مبكرًا مع افتتاح المقهى صباحًا. كان أول مَن يدخل، وفي مرَّاتٍ عدة آخر مَن يغادر. في خمسينيات العمر، ربما في أواخرها. كان إمَّا منهمكًا في الكتابة، أو يقرأ ما يكتبه بصوتٍ يسمعه الجالس في الطاولةً المجاورة. كان غريبًا أن أرى شخصًا يقرأ، ويحرِّك يديه، وكأنَّه يتحدث لشخصٍ أمامه! خمَّنت أنه كاتبٌ مسرحي، أو روائي، وخمَّنت أنه معلمٌ، يراجع الدروس، ويتدرَّب عليها. غبت عن المقهى، وصاحبت مقهى آخرَ، ومرَّت سنتان، أو ثلاثٌ. شاهدته صدفةً في القطار، كان ينظر للشاشة، ثم يتحدث للذي في خياله! هذه المرَّة، لم أعتقد أنه كاتبٌ، أو معلمٌ. شعرت بأنه يحاول أن يفسِّر أمرًا. ربما يحاول أن يُقبَل اعتذاره، أو يشكو من آلامٍ. نزل عند محطةٍ، وغاب في الزحام، لكنه لم يغب عن ذاكرتي.
* هل عند المقاهي أي وفاءٍ؟ لم تكن عندي القدرة على الإجابة عن هذا السؤال. الإجابة تحتاج إلى سنواتٍ طويلةٍ لتعرفها. الآن وبعد أكثر من 20 عامًا على مصاحبة المقاهي، أقول: إنها غير وفيَّةٍ، تغيب عنها سنواتٍ، وتعود مشتاقًا، فلا تستقبلك الاستقبال اللائق، تعود مشحونًا بعاطفتك لها، وتعاملك معاملة الغريب! وجوه العاملين، ليست هي التي تعرفها وتألفها، ومن الصعب أن تفسِّر للوجوه الجديدة علاقتك بالمكان. إنهم لا يعرفونك. هم يألفون وجوهًا، جاءت من بعدك. المقاهي لا تعرف الوفاء، لأنها غالبًا لا تنتظر، وقد تبدِّل من نفسها دون أن تكترث لك. تعود إليها بعد غيابٍ لتجدها وقد تحوَّلت إلى محلٍّ للسجائر الإلكترونية، أو مطعمٍ للوجبات السريعة. المقاهي فاتنة.. لكنها لعوبٌ.
* لم أره يومًا في غير تلك الطاولة، وكأنَّها خصِّصت له. بعد مدةٍ، علمت أنه يأتي مبكرًا مع افتتاح المقهى صباحًا. كان أول مَن يدخل، وفي مرَّاتٍ عدة آخر مَن يغادر. في خمسينيات العمر، ربما في أواخرها. كان إمَّا منهمكًا في الكتابة، أو يقرأ ما يكتبه بصوتٍ يسمعه الجالس في الطاولةً المجاورة. كان غريبًا أن أرى شخصًا يقرأ، ويحرِّك يديه، وكأنَّه يتحدث لشخصٍ أمامه! خمَّنت أنه كاتبٌ مسرحي، أو روائي، وخمَّنت أنه معلمٌ، يراجع الدروس، ويتدرَّب عليها. غبت عن المقهى، وصاحبت مقهى آخرَ، ومرَّت سنتان، أو ثلاثٌ. شاهدته صدفةً في القطار، كان ينظر للشاشة، ثم يتحدث للذي في خياله! هذه المرَّة، لم أعتقد أنه كاتبٌ، أو معلمٌ. شعرت بأنه يحاول أن يفسِّر أمرًا. ربما يحاول أن يُقبَل اعتذاره، أو يشكو من آلامٍ. نزل عند محطةٍ، وغاب في الزحام، لكنه لم يغب عن ذاكرتي.
* هل عند المقاهي أي وفاءٍ؟ لم تكن عندي القدرة على الإجابة عن هذا السؤال. الإجابة تحتاج إلى سنواتٍ طويلةٍ لتعرفها. الآن وبعد أكثر من 20 عامًا على مصاحبة المقاهي، أقول: إنها غير وفيَّةٍ، تغيب عنها سنواتٍ، وتعود مشتاقًا، فلا تستقبلك الاستقبال اللائق، تعود مشحونًا بعاطفتك لها، وتعاملك معاملة الغريب! وجوه العاملين، ليست هي التي تعرفها وتألفها، ومن الصعب أن تفسِّر للوجوه الجديدة علاقتك بالمكان. إنهم لا يعرفونك. هم يألفون وجوهًا، جاءت من بعدك. المقاهي لا تعرف الوفاء، لأنها غالبًا لا تنتظر، وقد تبدِّل من نفسها دون أن تكترث لك. تعود إليها بعد غيابٍ لتجدها وقد تحوَّلت إلى محلٍّ للسجائر الإلكترونية، أو مطعمٍ للوجبات السريعة. المقاهي فاتنة.. لكنها لعوبٌ.