عبد الرحمن بن سعود يقرأ سورة الفاتحة.. ولطف يصف قرار المدرب بالكارثي
ليلة الرباعية بين النصر والهلال.. معركة «قاعدين ليه»
يكتب التاريخ بطرق كثيرة.. يكتب بالإنجاز.. يكتب بالإعجاز.. يكتب بالاستثناء.. يكتب بكل شيء يتحدى المنطق والاعتياد وطبيعة الأشياء.. ومباريات الهلال والنصر فتح لها هذا التاريخ الأبواب والنوافذ وحتى الممرات الضيقة لتسجل حضورًا لا ينقطع.
التقى النصر بالهلال سنين عددًا بينها وفيها مرات مشهودة في المنعطف الأخير نحو ذهب أو لقب.. كان آخرها قبل أشهر قلائل في قلب الحوية بحثًا وراء قمة عربية حافلة.. قبلها كان هناك جيش من المواجهات البطولية التي ابتسمت للهلال مرات ولأصحاب القمصان الصفراء مرات أخريات.. هناك بين الخصمين اللدودين مباريات عادية، هي أيضًا فسح لها التاريخ موقعًا ومرتعًا لمجرد أن المتصارعين فوق العشب الأخضر نصرٌ وهلالٌ. وبعيدًا عن أي مباراة ختامية ومفصلية، يتصدر لقاء الأربعات القائمة وبلا منازع.. مباراةٌ تقدم فيها الهلال برباعية نظيفة، ولم يتبقَّ على صافرة النهاية إلا 25 دقيقةً، كانت كافية ليعدّلها النصر في سيناريو أشبه بفيلم هوليوودي فائز بثلاث جوائز أوسكار.. نادرة هي المباريات، وعبر التاريخ كله، أن يتقدم فريق بالأربعة ثم يدرك الخاسر النتيجة فكيف إذا كان الكاسب هلالٌ والخاسر نصرٌ.. هنا تبدو التراجيديا في أبهى صورها.
سهرة كروية، يعدّها النصراويون بعد مرور نحو 28 عامًا عليها ليلةً من لياليهم الساكنة في ذاكرة الفرح الطويل.. تبدأ المباراة بسجال معتاد.. كفة الأسماء والنجوم تبدو متوازية.. قائمة الأزرق يتصدرها المغربي أحمد بهجا قادمًا بصورة ذهنية كبيرة من مونديال أمريكا.. الأصفر تحت قيادة أهم أساطير خط المنتصف السعودي فهد الهريفي.. في الدقيقة الـ 20 يبدأ عرض السيرك الهلالي بهدف ليوسف الحيائي.. تمر 15 دقيقة أخرى ويضع بهجا بصمته على شباك مضحي الدوسري.. دقيقتان فقط ويسجل محمد لطف الهدف الثالث.. يذهب النصراويون إلى استراحة ما بين الشوطين بوجوه محبطة.. كانوا يحاولون كثيرًا هز شباك تركي العواد دون جدوى.. كل المؤشرات كانت تتجه إلى الأمور المحسومة.. فوز هلالي ساحق وخسارة نصراوية قاسية.. ربما هناك آمال ضعيفة لحفظ ماء الوجه بهدف خجول.. هذا هو الطموح الأصفر في ذاك الوقت المزعج.. يطلق حسن البحيري صافرة جديدة معلنًا بداية الشوط الثاني.. لم ينتظر يوسف الحيائي أكثر من سبع دقائق ليظهر مجددًا ويسجل هدفًا هلاليًا رابعًا.. كان بمنزلة رصاصة الرحمة..
الإحباط يخيّم على كل شيء مرتبط بالنصر لدقائق معدودة قبل هبوب العاصفة.. يتسلم النصر المباراة كما يتسلم المتسابقون إشارات التتابع.. سيطرة كاملة ومطلقة وشاملة.. هجوم كاسح من كل الجهات.. يفتتح حسين هادي التسجيل.. تتابع الأهداف عبر جزائية للهريفي.. كيندي يتكفل بالثالث قبل النهاية بست دقائق.. لاعب مغمور اسمه فيصل مرزوق يدخل بديلًا في اللحظات الأخيرة.. ضربة زاوية ينفذها الظهير مساعد الطرير.. يطير لها ذلك الوجه الصاعد مرزوق، ويسكنها الشباك الهلالية كاتبًا فصلاً خالدًا في تاريخ أهم مواجهات الديربي في الوطن العربي.. يتعادل النصر ويخرج رئيسه الأمير عبد الرحمن بن سعود بتصريح صحافي صاخب يشبه مسيرته الملتهبة، ويرد هذه المرة على الجماهير الهلالية.. بعد هدف الحيائي الرابع رددت الجماهير الزرقاء في الجهة الجنوبية من ملعب الملز عبارة: “قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا”. هو نهج تشجيعي، يطالب جمهور الخاسر بالمغادرة.. نهج اعتيادي.. بعد التعادل المثير يقول عبد الرحمن بن سعود: “قاعدين نفرجكم على الفن النصراوي”.
يستعيد محمد لطف أجواء تلك الليلة ويقول: “فعلًا هذه مباراة لا تنسى.. كانت كالحلم.. مدربنا البرازيلي ارتكب أخطاء كارثية منحت النصر فرصة التعديل.. تغيير حسين المسعري الذي كان أبرز مَن في الملعب خطوة غريبة، ألقت بظلالها علينا.. المدرب البرازيلي لوبيز دفع بهاني أنور الذي تسبَّب بعد نزوله بركلة جزاء للنصر، كانت المفتاح لانقلاب الأمور ضدنا.. كنا متقدمين بنتيجة مطمئنة، والمدرب هو الذي سلم المباراة للنصراويين.. أيضًا أصر على بقائي رغم معاناتي من تداعيات الإصابة، وأجبرني على اللعب رأسَ حربة.. وكنت واثقًا لو استمرت المباراة دقائق بسيطة لسجل النصر هدف الفوز”.
في الجانب النصراوي يستذكر إبراهيم العيسى ما حدث، ويقول: “المباراة بمجملها تعدّ واحدة من المباريات التي لا يمكن نسيانها.. قبل دخولي للملعب بديلًا تحدث معي الأمير عبد الرحمن بن سعود، وحفزني، وقال ستتغير النتيجة بواسطتك.. بعد الشوط الأول أتذكر أن عبد الرحمن بن سعود قال للجماهير النصراوية سنعود في الشوط الثاني.. أتذكر أنه التزم الصمت تمامًا قبل المباراة واكتفى بقراءة سورة الفاتحة.. وفعل الشيء نفسه بين الشوطين ونحن متأخرون بثلاثة أهداف.. كانت ليلة يصعب الحديث عنها باختصار”. فعلًا كما قال لطف وكما قال العيسى.. هي ذاكرة تستعصي على الهروب من اللحظات الخالدة.. هي النصر والهلال.. هي النتيجة.. هي التاريخ!.