عتريس.. أشجع رجل في تاريخ الاتحاد
لا تخلو الأندية بعموميتها كبيرها وصغيرها من الخلافات والاختلافات، وأحيانًا الانقسامات والصراعات والحروب الخفية.. بالطبع تتباين هذه التضادات كما تتباين أشعة الشمس الشارقة مع ظلمات الليل البهيم.. هذه الأجواء الكالحة السواد عاشها النصر واعتاش معها، وعرفها الأهلي عز المعرفة، ومرت على بنو هلال في مضاربهم، وخبرها الشباب حينًا من الدهر، وسجلت حضورها في القادسية والاتفاق والتعاون والرائد بقدر ما ترك لها الزمن.. لكن الاتحاد هذا التسعيني المشبع بالحياة وحكمة السنين وتهاويل الدنيا شهد أشهر وأقوى وأكبر انقسام مازالت ارتداداته وانعكاساته غائرة في أنفس أولئك الذين أضنى العميد الباذخ قلوبهم وأقاصي أرواحهم حتى يومنا هذا..
قبل سنين عددًا انقسم الاتحاديون إلى فسطاطين.. مطانيخ وعتاريس.. أما المطانيخ فهم حواريو منصور البلوي والمؤمنون حد اليقين برمزيته ومشروعه الذي جعل من الاتحاد شريكا لا يتزحزح بجوار أندية المال والجاه والسلطة والنفوذ.. هكذا يرى جماعة منصور البلوي والسائرون في ركابهم أسطورية رجل يملك كاريزما مختلفة تمامًا عن تلك الوجوه التي تناوبت على ولاية الاتحاديين..
يصفون منصور بالمطنوخ، ولهذا اتسقت تسميتهم بالمطانيخ تماشيًا مع صفة أُلصقت بتلك الشخصية العجائبية، والمطنوخ في المفهوم الشعبوي ليس الذي يملك فائضًا من الأموال فحسب، وإنما هو الذي يصرف هذا المال بلا حسيب أو حساب أو خوفًا من الخسائر.. وهذا ما جعلته فترة رئاسة منصور البلوي للاتحاد واقعًا مشهودًا، بعد أن أغدق الرجل سواء عن طريقه بشكل مباشر أو عن طريق أعضاء شرف ساندوه وشدوا من أزره لدرجة أنه خرج واثقًا متشدقًا بصرفه ما يزيد عن 400 مليون ريال على الاتحاد من جيبه الخاص كما قال في لقاء فضائي شهير..
المطانيخ جمع مطنوخ، وإذا كنت اتحاديًا وفي قلبك مثقال حبة من خردل عشقًا وهيامًا بالبلوي فأنت يا سيدي مطنوخ ودخلت في زمرة المطانيخ.. يكفي أن تحب منصور.. ويضرب الحب شو بيزل..!!
وفي الضفة الأخرى هناك السادة العتاريس، وهؤلاء بالطبع تخندقوا وراء عادل جمجوم الذي لقّبوه أو عيروه بعتريس.. فتعترسوا بلا ذنب اقترفته أيديهم..
أما الاسم فقد وسم به هذا الرجل دون أن يعرف حتى معناه وسببه ومسبباته.. أيضًا وفي لقاء تلفزيوني قال عادل جمجوم بأنه لا يخجل ولا يكترث من تلقيبه بعتريس، لأن عتريس يحمل معنى جميلًا وأحد أسماء الأسد "على حد تعبيره".. هذا كلام عادل جمجوم نفسه وهذا رأيه لكنها بالطبع ليست الحقيقة ولا حتى نصفها..
في عام 1966 قدم الممثل الأسطوري محمود مرسي فيلم " شيء من الخوف "يحكي قصة رجل جبار متكبر ومتغطرس واسمه عتريس، وجرت أحداثها الدرامية المثيرة في قرية مصرية عانى أهلها من تعامل عتريس هذا وسلطويته البشعة قبل أن يتحد أهل القرية ويقضوا عليه بطريقة مفجعة بقذف ألسنة النار الملتهبة داخل غرفة نومه حتى لقي مصرعه مشتويًا بأثاث غرفته الفاخرة وستائرها المتدلية..
حينما كان محمود مرسي يتلقى أصداء النجاح الباهر لهذا العمل السينمائي الخالد والذي يحتل المرتبة الحادية والسبعين في قائمة أفضل مئة فيلم عربي عبر التاريخ، كان هناك طفل لم يجتز الثالثة من عمره يلهو داخل فناء منزلهم الأرجوازي على أطراف حي الشاطئ المتمركز في شمال جدة المتنعم بنسائم البحر الأحمر بمحاذاته الجغرافية للكورنيش.. هذا الطفل هو عادل جمجوم.. تمر الأيام أسرع من أهلها فيقترن اسم عتريس المأخوذ من الفيلم المصري الباهر بالمحامي الجداوي الحاصل على ماجستير القانون من الولايات المتحدة الأمريكية.. هذه أمريكا بلد الحريات وبلد النظام وبلد العلم والمتعلمين.. ويا لهذه المفارقة الساخرة، الرجل الذي شهد له الأمريكان ومنحوه أعلى درجات علم الدفاع عن الغلابة والمظلومين والذين جار عليهم الزمن وتقطعت بهم السبل يشبه وبدم بارد بشخصية محكية تمثل رمزًا للتجبر والتكبر وأكل حقوق الناس بالباطل.. والمشبهين هم عشيرته الأقربون الذين يشاطرونه الحب الكبير للعميد ويتوحدون معه وراء الاتحاد..
وحتى نمسك بأطراف الخيوط المتشابكة نحتاج قبل كل شيء إلى ترتيب قطع البازل ونتعرف على أسس التعارك الذي كان يظهر ويختفي بحسب النتائج والبطولات والإخفاقات..
تسيد منصور البلوي مقاليد القرار في الاتحاد وصار الاتحاد في أيامه مالئ الرياضة وشاغل الرياضيين.. صفقات مليونية وانتصارات لا تتوقف وبطولات بلغت حد التخمة.. نادرًا ما يمر يوم واحد يتغيب فيه منصور وناديه عن الإعلام صحفًا وبرامج وفضاء.. احتل مساحة شاسعة من الاهتمامات والتساؤلات والأسئلة المتواترة والإجابات الناقصة.. في هذه الأجواء المفعمة بالانتشاء، المتهللة بطربية الفرد قال منصور للاتحاديين وبصوت واضح لا يحفه النشاز: لا سلطة في الاتحاد تعلو سلطتي، فالرأي رأيي والقرار قراري.. قال بتصريح شهير إنه ليس بحاجة ريال واحد من أعضاء الشرف..
بكلام كهذا أعلن نهاية حقبة مترسخة في التركيبة الاتحادية المتكئة على القوة المتراصة من عائلات جداوية مقتدرة ظلت تحرك اتجاهات الدروب ومساراتها قبل أن يخطو ذاك الكبير خطوة واحدة..
هذا إعلان صريح لاندلاع الحرب الباردة المترطبة بأجواء انقسام لم تضع أوزارها حتى الآن.. استشعر كبار الاتحاد التهميش فقالوا للبلوي ما قاله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"..
لهذا كان ظهور عادل جمجوم الذي فاجأ الاتحاديين أنفسهم بتلك البزاغة التي اعتبرت حينها أشبه بعملية رياضية انتحارية لم يحسب الرجل حساباتها الدقيقة، فما كان من كل الذين يتأملون سقوط منصور إلا الالتمام حول جمجوم ومباركة خطواته وتوجهاته.. كانوا يقولون في خفايا أرواحهم على الأقل يخلصنا من البلوي.. وهذا بالنسبة لهم ليس أمرًا يسيرًا لمنازعة جبهة البلوي خاصة وهي تمتلك بنيانًا إعلاميًا متينًا ترسخ من فطنة منصور نفسه بأهمية احتشاد أصوات جاهزة لخوض غمار الوغى الشخصية بعيدًا عن أي حسبة قد تأخذ فيها كلمة الحق إجازة قصيرة..
أجل انقسم الاتحاديون.. نعم تفرق شملهم.. بالتأكيد ما عادوا كالأصابع في راحة اليد.. تجمعهم مائدة واحدة يتناولون عليها أفراح الانتصارات وسعادة الفوز.. ترك هذا الانقسام المؤذي أثره وآثاره وتأثيراته على مسيرة الاتحاد.. ينتظر المشجع البسيط الخلاص، وينتظر المساعدة وينتظر الإنقاذ.. والذين يمسكون بمقود سيارة الإسعاف تناسوا أنهم ينقلون مريضًا يحتاج إلى تدخل سريع قبل أن يلج غرفة الإنعاش والعناية المركزة..
يفيق المريض المرهق من تغلغل الأقراص المسكنة في جسده المترهل بمتاعب السنين.. بلغ الاتحاد من العمر عتيا وما عاد قادرًا على رؤية أولاده يهدرون التركة الثقيلة المتوارثة التي جعلت منه عميدًا تزين صدره النياشين والأوسمة فلا يحال من مثله للتقاعد..
اضطر البلوي للابتعاد والاستقالة.. لم تطوَ صفحته تمامًا.. جاءت وجوه أخرى لا تشك خطيًا بإبرة إلا بإمرة منصور.. لم تستمر هذه الحالة طويلة.. وصل عادل جمجوم نائبًا لمحمد الفايز.. جمجوم كان هو الآخر الرجل القوي في المنظومة الإدارية الجديدة.. بلا إشهار النوايا بدأ يخطط لمسح آثار البلوي من الاتحاد.. جمجوم ابن عائلة متعمقة في العشق والانتماء الاتحادي.. يمثل إحدى الجبهات النافذة في تلك الزمرة التي تركها البلوي على حافة الرصيف تتفرج على اتحادها من ضمن المتفرجين.. أصدر القرار الأكثر شجاعة والأكثر جرأة والأكثر مغامرة في تاريخ الاتحاد..
نادى محمد نور وقال له "الباب يفوّت جمل".. أراد جمجوم بتلك الخطوة الجسورة ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد.. حرق الورقة الجماهيرية الفاعلة المتمثلة بهذا اللاعب الأسطوري المحسوب ضمنيًا على منصور البلوي.. التخلص من هيمنة نجم كروي تمتد أدواره أحيانًا كثيرة خارج الملعب..
فرض السيطرة المطلقة وتوجيه رسالة مرعبة للاعبين مفادها.. لا كبير في الاتحاد ولا كبير على الاتحاد.. وصلت الرسالة لكل الأطراف.. للبلوي.. للاعبين.. للجماهير.. للإعلام.. ولكل أعضاء الشرف الذين غيبوا وظنوا أن اتحادهم خرج من سيطرتهم ونفوذهم..
على الجهة الثانية ليس محمد نور اللاعب الذي يستسلم بسهولة.. لم يفعلها فوق العشب الأخضر ولن يفعلها خلف الأضواء المطفأة.. اتصل أحد معارفه برئيس النصر فيصل بن تركي وعرض عليه إمكانية انتقال نور للأصفر.. بدوره استشار فيصل ثلاثة نصراويين خالد بن فهد وعضو شرف آخر وأيضًا حسين عبد الغني الذي كان قائدًا للنصر حينها.. جميعهم باركوا الخطوة وأيدوا وبشدة اقتناص اللاعب الخبير.. طائرة خاصة تنقل نور من جدة إلى الرياض.. وقع عقد الانتقال للفريق الذي اختاره بعد الاتحاد.. ليس أمرًا مخفيًا القول بأن نور كان يحب النصر كثيرًا بعد الاتحاد.. كل الذين يعرفون محمد نور عن قرب يملكون هذه الحقيقة القاطعة.. يميل نور للنصر طبعًا بعد الاتحاد.. هذا هو السبب الأول وراء إتمام الصفقة وبدون مزايدات أو مفاوضات مطولة.. حينما تخلص عادل جمجوم من صداع محمد نور استقبل في نفس الوقت لقب عتريس.. اتحاديون كثر تخندقوا وراء جمجوم.. لا يجيد جمجوم أبدًا صناعة التحالفات الإعلامية.. الإعلاميون والصحافيون الذين أقحموا أنفسهم في رحى المعركة دفاعًا عن جمجوم لم يكونوا جميعهم متشبعون بالرؤى التي يحملها ولا حتى متعاطفون معه.. بعضهم للأمانة كان جاهزًا فقط للوقوف ضد أي مشروع يناهز سيطرة البلوي..
نجح جمجوم دون أن يحرك حتى أطراف أصابعه وفي وقت قصير بتشكيل جبهة قوية جدًا تؤازر أفكاره وتطلعاته في إعادة ترتيب البيت الاتحادي كما يراه بعض الاتحاديين.. جمجوم هو الآخر لم يمكث طويلاً في المواقع النضالية فانسحب مجبرًا أو مكرهًا بقرارات أصدرتها الرئاسة العامة لرعاية الشباب حينها ضمن أجواء لجان تقصي الحقائق التي طويت أغلب صفحاتها بلا ضحايا أو مدانين..
تعاقبت على الاتحاد بعد جمجوم عدة إدارات من بينها إدارة إبراهيم البلوي التي أعادت محمد نور ليرتدي قميص الاتحاد مجددًا.. وكأنها تقول جئنا لترميم الدمار الذي خلفته الأفكار العتريسية..
وصل أنمار الحائلي وكانت أبرز أهدافه المنشودة الخروج بالعميد من هذا النفق المظلم.. لا يريد أن يكون محسوبًا على العتاريس ولا على المطانيخ.. لا يريد أساسًا أن يختنق الاتحاد أكثر بهذا الهواء الملوث.. داعم لكل الإدارات سابقًا.. هذه ليست سطورًا مما جاء من الكلام المختار في مدائح أنمار.. الحقيقة التي أراها وأسمعها، وما أريكم إلا ما أرى..
أوكل مسؤولية إدارة الكرة لحامد البلوي المعروف كأبرز صقور مرحلة منصور حتى يلجم أي صدى يتردد حول المسافة التي يحتلها بين المعسكرين المتضادين.. كثر من الاتحاديين يعتبرون أنمار أقرب للعتاريس رغم تلك الحادثة التي رافقه فيها نائبه أحمد كعكي وشهدت تشابكًا بالأيدي واعتداءً على جمجوم إبان رئاسته القصيرة للاتحاد الأمر الذي نفاه المحامي حينها وأكدتها وسائل إخبارية موثوقة..
تتدفق بين حين وآخر وسط دهاليز السوشال ميديا صور مسربة عن زيارات أنمار المتكررة للبلوي وبالطبع لها ما يبررها.. أقلها التعاطي مع منصور كرجل خبير بخص التعامل مع الوسط الرياضي وبخص الطريق إلى طرائق البطولات وليس مهمًا بأي طريقة كانت.. يمني أنمار نفسه أن يتوج الاتحاد معه ولو بربع ما حدث مع منصور.. وما الدنيا إلا رحلة شائكة من الأماني المؤجلة والأحلام الضائعة..
لا يدري أنمار أن نارًا تتقد تحت الرماد الخجولة ينفخ العتاريس والمطانيخ شظاياها الكامنة كحمم بركان خامدة تنتظر الرصاصة التي لا تزال في جيوبهم ليعيدوا سيرتهم الأولى.. سيرة الحب الذي يدعي كل فريق أنه صنع في الاتحاد.. وكل حزب بما لديهم فرحون.. يرى المطانيخ أن مطنوخهم كتب كل شيء يستحق الفخر في الاتحاد.. البطولات.. الصفقات.. الرهانات الرابحة.. وأيضا صناعة رمز كروي اسمه محمد نور.. هذا النور الساطع الذي أطفأه عادل جمجموم ليذهب ويشع داخل النصر.. هذا النصر الذي يشاطر أغلب جمهوره وأغلب إعلامه الاتحاديين العداء طوال السنوات العشر الأخيرة.. هذا أكبر ما جناه جمجوم بحق الاتحاد.. هذا بحسب ما يراه الحزب المساند للبلوي.. ويرى العتاريس أن عتريسهم أعاد الاتحاد ليكون كما أراد له مؤسسوه وأبناؤه الأوائل فريقًا كرويًا ينتهج التعددية ويحتوي الجميع لا مكان فيه لكبير على الآخرين، ولا مكان فيه لرجل ينفرد بكل شيء وليس فيه موقع للاعب واحد يتحول معه الكيان إلى حارة شعبية ترزح تحت مظلة البلطجة والأنانية والمحسوبيات والشللية البغيضة..
لا ينتظر أنمار النصائح.. والحكايات لا تعدد العبر ولا تعطي الإرشادات.. إنها فقط تضيء بعض الزوايا المهجورة.. فيلم شيء من الخوف.. لك أن تتخيل كيف خرج من جلباب هذا الاسم أشجع رجل في تاريخ الاتحاد..
كان عتريس قويًا وظالمًا خلف الشاشة.. ربما لم يكن جمجوم يحمل كل الصفات العدائية..
محمود مرسي كان سلطويًا متعجرفًا في الفيلم المصري.. عادل جمجوم كان رجل التصحيح ورجل المرحلة المحرجة ورجل التحدي الأخطر بحسب الرواية العتريسية.. منصور رمز اتحادي تتحدث عنه الأرقام والمنصات وتنسجه الأحلام كما تقول الرواية المطنوخة..
أما الحقيقة.. أما بعضها.. أما جزء منها.. أما أهم شيء فيها.. المطانيخ والعتاريس واقع اتحادي أليم.. مطنوخ وعتريسي لا يلتقيان.. بينهما برزخ لا يبغيان..!!