القرشي.. احترق جسده وتهشمت عظامه وفقد ذاكرته.. وعاد بالذهب
«نسبة نجاة ابنكم من الحادث المروري صفر في المئة.. واحتمالية وفاته 100%.. احترق جسده وتهشمت عظامه وفقد ذاكرته».. كلمات لا تقل ألمًا عن حرارة لهيب نيران التهمت سيارة كان يستقلها 4 أصدقاء في ريعان الشباب بعد حادث انقلاب، أودى بحياة أولهم فورًا.. وأمهل الثلاثة الآخرين حتى نقلهم إلى المستشفى في حالة حرجة للغاية.
ووفقًا للتشخيص المبدئي كانت الأنظار تراقب نبضات ذلك الشاب الصغير، وترصد مدى قدرة قلبه على الصمود والاستمرار في النبض والبقاء على قيد الحياة وهو في غيبوبة تامة، بعد أن تعرض لحروق من الدرجة الثانية وكسور متفرقة في اليدين والصدر وجمجمة الرأس أدت إلى ارتجاج المخ وفقدان الذاكرة.
كانت تلك من أصعب اللحظات في حياة عبد الرحمن القرشي، البطل السعودي، قبل نحو ثمانية أعوام من فوزه بذهبية 100 م كراسي متحركة خلال منافسات دورة الألعاب البارالمبية باريس 2024م.
ويبقى شهر ديسمبر عاملًا مشتركًا في كتابة فصل جديد لابن مكة، الذي شاءت أقدار المولى عز وجل أن يبصر النور المرة الأولى في 25 ديسمبر 1997م، ويولد مصابًا بـ«شلل نصفي»، لتمضي السنوات تباعًا ويتعرض في الشهر ذاته لحادث مروري وأحاطه لطف الله ليكون الناجي الوحيد بين أربعة رفاق فارق الحياة ثلاثة منهم.
ويدين عبد الرحمن لوالدته بالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في شخصيته القوية التي استمدها من البيئة التي نشأ في داخلها، في ظل نظرته إلى نفسه بكل فخر وعزيمة وإرادة، صنعت منه عاشقًا للتحديات بعد أن أصر على الدخول مدارس التعليم العام المختلطة، رافضًا الاستسلام للإعاقة، وواثقًا من أنه سوي العقل والبدن، ليتدرج من المرحلة الابتدائية حتى وصل إلى مقاعد الدراسة الجامعية في التعليم المختلط بين أقرانه.
تلك الرحلة الجميلة خالطها بعض المواقف التي لا يزال القرشي يتذكرها، أحدها عندما التحق بمدرسة موسى بن نصير المتوسطة، ونجح في اجتياز الصف الأول المتوسط منتقلًا إلى الثاني، ولكن التحدي الأكبر الذي وقف أمامه كيفية صعود الدرج من أجل الالتحاق بصفه الجديد، وهو الأمر الذي تصدى له مدير المدرسة من خلال اتخاذ قرار بإنزال جميع فصول الصف الثاني إلى الدور الأرضي، وكرره في السنة التالية حتى تخرج من تلك المدرسة التي يحتفظ فيها بالكثير من الذكريات.
رياضيًّا.. لم يكن عبد الرحمن القرشي يمارس لعبة الكراسي المتحركة ولا يعرف عنها شيئًا حتى قادته الصدفة إلى أن يصبح أحد أبطالها، وذلك بفضل الله ثم بفضل صديقه راضي الحارثي، الذي لم يدخر جهدًا في إقناعه بالانضمام إليه ضمن كتبية ممارسي اللعبة.
ويسرد البطل البارالمبي لـ«الرياضية» قصته مع اللعبة قائلًا: «انضممت لممارسة لعبة الكراسي المتحركة بمحض الصدفة.. فلم أكن أعلم عنها شيئًا.. حتى رأيت صديقي راضي الحارثي الذي أعطاني فكرة عنها وطلب مني أن أشارك فيها».
ويضيف: «لم أكن مقتنعًا على الإطلاق بممارستها ولا أريد أن أمارسها، إلا أن راضي الحارثي استمر نحو ثلاثة أسابيع في محاولاته لإقناعي بإصرار عجيب، حتى نجح وأقنعني ورافقته إلى النادي، لتبدأ رحلتي مع لعبة الكراسي المتحركة، والفضل بعد الله يعود إليه في تعرفي على هذه الرياضة الجميلة».
موسم 2014 كان نقطة بداية لممارسة عبد الرحمن القرشي الرياضة كـ«هواية» يجدها متنفسًا رحبًا لطاقته، دون التفكير في تحقيق أي إنجازات، من خلال التحاقه بنادي مكة لذوي الإعاقة، وما هي إلا 3 أشهر فقط، حتى دُوّن اسمه ضمن قائمة اختيرت من أجل السفر إلى لندن، العاصمة البريطانية، والمشاركة في بطولة العالم للشباب، وكأنها ملامح رسالة تدعوه للنظر إلى الأمور بصورة مختلفة وفتح مداركه الفكرية.
ومع اقتراب عام 2016 من إطفاء شمعته، وإسدال الستار على نهايته، حلّت الأحزان مع الحادث المروري الشنيع الذي أودى بحياة جميع من رافق عبد الرحمن القرشي في السيارة، ليودع الأول في موقع الحادث ويصبح الانتظار ملازمًا لعبد الرحمن الذي توقع الأطباء أن يكون أول المغادرين من الثلاثي المنقول إلى المستشفى، إلا أن عناية المولى أحاطت به وتوفي صديقاه خلال 48 ساعة، وظل هو في غيبوبة استمرت شهرين، ودعوات والدته وجميع من حوله تطوقه ليلًا ونهارًا حتى منّ الله عليه وتماثل للشفاء تدريجيًّا.
احتاج عبد الرحمن إلى بعض الوقت حتى يستعيد عافيته بعد عودة ذاكرته، ليقضي نحو العام في تجبير كسوره وتضميد جراحه وانتظار شفاء حروقه، ملازمًا الصبر ومؤمنًا بقضاء الله وقدره، ولكن الأمر الذي لم يقبله، قرار الطبيب الاستشاري الذي أخبره أنه لا يمكنه ممارسة الرياضة مرة أخرى عطفًا على الحالة الصحية التي مرَّ بها.
قرار لم يرق للبطل الشغوف، بعد تماثله للشفاء في منتصف 2017م.. فالشوق والحنين لرياضته المحببة يسكن قلبه، وفي داخله تمرّد يرفض الاستسلام كعادته، وأسئلة يرددها.. لماذا أبتعد عن الرياضة؟.. ما الذي يمنع عودتي؟.. ماذا سيحدث لو لعبت قليلًا؟.. ومع تعاقب علامات الاستفهام يستجمع قواه، ويحاول أن يدعم تطلعاته برضاء والدته والحصول على موافقتها كي يعود كما كان.. مع محاولات أخرى في اتجاه مواز لإقناع شقيقه بالسماح له أن يستأنف نشاطه الرياضي.
لم تكن المسألة سهلة على الإطلاق.. ولأنه متيم بهوايته فقد أعاد الكرّة مرة واثنتين وثلاثًا، حتى منحته الضوء الذهبي والخوف يسايرها على ابنها الذي منعه الأطباء من العودة لممارسة الرياضة بل أخبروه أنه لا يمكن أن يلعب كما كان في السابق بأي شكل من الأشكال.
وبفضل من الله واتزان تام، تدرّج القرشي في عودته لممارسة رياضته التي واصل نظرته إليها كهواية حتى عام 2019م، عندما عاوده العصف الذهني لحظة رؤية الإنجازات التي حوله.. ويتساءل.. ما الذي ينقصني لأحقق إنجازًا لبلدي؟.. لماذا لا أتوشح الذهب؟.. ما المانع في ترديد نشيد بلادي لحظة التتويج؟... وهنا ضاعف جهده واجتهد بشكل أكبر لينطلق كالسهم في سماء الإنجازات يحقق المنجز تلو الآخر.. محققًا فضية عالمية في الشارقة أعقبها بنيل برونزية دورة الألعاب البارالمبية 2021 قبل أن يعود إلى تحقيق فضية عالمية في باريس عام 2022 ويحقق ذهبية آسيا 2023م وذهبية العالم 2024 وذهبية دورة الألعاب البارالمبية 2024م.
ومع امتداد الإنجازات يؤكد ابن مكة المكرمة أن القيادة الرشيدة سخرت كافة الإمكانات لأبنائها، من أجل تحقيق الإنجازات، وهو ما يحفزّه للمضي قدمًا نحو البحث عن مجد وطني جديد، عبر بدء تحضيراته لخوض منافسات لوس أنجليس 2026م.