أولمو.. جوهرة صقلها الكروات.. ولمعها الإسبان
لا يندم الكروات على شيء في العقد الجديد أكثر من ندمهم على التفريط بالجوهرة الصغيرة داني أولمو، لاعب وسط المنتخب الإسباني الأول لكرة القدم، التي كانت تلمع في ملاعبهم، ولم يبذلوا جهدًا في سبيل الظفر بها، حتى قطفها الإسبان، وبات أحد أهم نجوم «لا روخا»، وقادهم إلى الذهب الأوروبي في ألمانيا، الصيف الجاري، قبل أن يرتدي قميص برشلونة الإسباني نادي طفولته.
في بلدة تاراسا، إحدى بلديات مقاطعة برشلونة، التي تقع في منطقة كتالونيا، شرق إسبانيا، والبالغ عدد سكانها 202.136 نسمة، ولد داني أولمو عام 1998 من أب إسباني وأم تعود أصولها إلى كرواتيا، وكان والده المدرب الإسباني المعروف ميكيل أولمو، الذي كان له الفضل الكبير في ظهور موهبة ابنه بعد أن صقلها منذ الطفولة وحتى الاحتراف.
لعب ميكيل أولمو خلال مسيرته مع فرق ذات مستوى أدنى في إسبانيا، وأصبح فيما بعد مدربًا، حيث أدار عدة فرق في دوري الدرجة الثانية «ب»، والقسم الثالث لكرة القدم الإسبانية، وكانت له تجربة غير ناجحة في الملاعب العربية مع فريق المنامة البحريني قبل أن يقرر الاعتزال والتفرغ لمتابعة ابنه الموهوب، الذي بات حديث العالم.
كانت كرة القدم في صدارة أولويات الطفل الإسباني، البالغ سبعة أعوام، على غرار والده، لكن الحسّ الوطني جمعهما في تلك الليلة على أريكة واحدة أمام الشاشة الصغيرة.
في مثل تلك السن يبحث الأطفال عادةً عن أبطال خارقين، إشباعًا لنهم الشعور بالقوة والشجاعة، وكانت نظرات «داني» حائرة بين 10 لاعبين إسبان يرتدون الزيّ ذاته، لا يرى في أي منهم اختلافًا عن الآخر، ومع أوّل مراوغات الرسام إندريس إنيستا، اختلجت مشاعره.
سيطرت هيئة الأسطورة الإسبانية وهيبته على خيال الطفل الصغير، بعد إحرازه الهدف الشهير في نهائي كأس العالم 2010 أمام المنتخب الهولندي، وبات يحلم بالسير على خطاه، وقيادة منتخب بلاده إلى التتويج بالمونديال، ويصبح النجم الأول في البلاد.
في النادي المحلي الصغير، الذي كان يقوده والده، تعلم الفتى الصغير أبجديات كرة القدم، قبل أن يقرر والده تسجيله في إسبانيول، الغريم التقليدي لبرشلونة، في كاتالونيا، ولكن حلم إنييستا جعل الطفل الصغير لا يستمر طويلًا في الغريم التقليدي، ويقرر والده تسجليه في برشلونة، وأكاديمية لاماسيا تحديدًا.
في عالم كرة القدم تعرف الأكاديمية الشهيرة أنها منجم الذهب الخالص في إسبانيا، والنهر الذي يتدفق ويصطاد منه النادي الكتالوني مواهبه، التي كتبت تاريخه، وجعلته أحد أعظم الأندية في العالم.
وأخرجت أكاديمية برشلونة، التي تعد منجم مواهبه، عددًا من العمالقة والأساطير، أبرزهم نجوم العصر الذهبي المتوج بالسداسية التاريخية في موسم 2008ـ2009، ومنهم ميسي، وأندريس إنييستا، وتشافي هرنانديز، وجيرارد بيكيه، وكارليس بويول، وسيرجيو بوسكيتس، ومدربهم الإسباني بيب جوارديولا، ولاحقًا لامين يامال، وداني أولمو، والبقية.
من الداخل تبدو أكاديمية برشلونة قريبة الشبه بالمدارس الداخلية، التي تتضمن سكنًا لطلابها، وفيها يتعلم اللاعبون الناشئون أساسيات كرة القدم، وكيفية اللعب بالطريقة الهجومية الممتعة، التي يتميز بها البارسا.
كذلك يدرس ناشئو برشلونة مواد معرفية، مثل الإدارة المالية، والتواصل والتسويق والإدارة، خاصة بعدما أصبحت لتلك المهارات أهمية كبيرة في صناعة كرة القدم الحديثة.
أصبحت لاماسيا المثال الذي تقدمه لبقية أكاديميات العالم من الناحية الاقتصادية، والرياضية، والاجتماعية، لتطوير وتدريب اللاعبين المواطنين على أرضهم وملاعبهم.
ولاماسيا تختلف عن جميع أكاديميات العالم، ومنها المثال الأمريكي لتطوير الناشئين رياضيًا، الذي يعتمد عادة على المدارس. كذلك تختلف عن النموذج الأوروبي التقليدي، حيث يغادر الطلاب عادة المدرسة عند سن الـ 15 للتركيز تمامًا على الرياضة.
ومن أمثلة ذلك ما قاله أحد المسؤولين عن الفريق: «إن نحو 12 لاعبًا مع فريق برشلونة الرديف، وأحد نجومه، أندرياس إنييستا، لاعب الوسط، كانوا يدرسون كورسات جامعية، وكل لاعب مقيم في الأكاديمية يمنح جهاز كمبيوتر «نقال» لابتوب، وأحد اللاعبين يؤدي دور طباخ الأكاديمية للمجموعة. ومنهم أخصائي التغذية، والطبيب، وخبير العلاج الطبيعي، كذلك هناك المشرفون، الذين يصحبون اللاعبين في جولات حول المدينة».
صقلت الأكاديمية موهبة الفتى الإسباني حتى بات جاهزًا للصعود إلى الفريق الأول قبل أن يشده الحنين إلى ديار أقارب والدته، الذين قدموا له عرضًا لا يستطيع رفضه، وضمنوا له التدرب مع الفريق الثاني لمدة قصيرة، ومن ثم اللعب في الفريق الأول للعملاق الكرواتي دينامو زغرب، الذي أنجب العديد من الأساطير يتقدمهم لوكا مودريتش كرويف البلقان.
حزم الفتى الكتالوني حقائبه وتوجه إلى زغرب العاصمة الكرواتية، ولم تثنيه محاولات ووعود البرشلونيين في تغيير رأيه الذي كان لوالده الدور الكبير في رسمه وتخطيطه رغبة منه في تطور ابنه بعيدًا عن ضغوطات «الليجا» الإسبانية.
لم يخيب أولمو ظن الكروات، وبرهن على نظرتهم الثاقبة في التعاقد معه بعد شق طريقه نحو النجومية مع الفريق الأول بعمر صغير ويصبح النجم الأول في كرواتيا.
حاول الكروات استغلال أصول والدة أولمو الكرواتية لإقناعه بتمثيل منتخب بلادهم، لكن محاولاتهم لم تكن جادة وهو ما يندمون عليه الآن بسبب عدم بذلهم الجهد الكافي لإقناع الفتى الصغير حينها بارتداء قميص الناريين.
فاز أولمو بأربعة ألقاب للدوري وثلاث كؤوس مع دينامو قبل الانتقال إلى فريق لايبزيج، وصيف الدوري الألماني، في يناير 2020.
وقال شقيقه داني عن محبة الكروات له قبل مواجهة المنتخبين في يورو 2021: «الأجواء جنونية في زغرب، إنهم لا يحبونه فقط لطريقة لعبه كرة القدم، ولكن أيضًا لشخصيته. كما أنه يتحدث اللغة الكرواتية بطلاقة».
لعب أولمو بقميص لايبزيج 148 مباراة، وأحرز خلالها 19 هدفًا، وتوج معه بكأس ألمانيا مرتين، قبل أن يعود إلى نادي البدايات برشلونة.
خلال الأعوام المقبلة يحلم أولمو بالسير على خطا قدوته ومثله الأعلى إندريس إنييستا، وقيادة إسبانيا للتتويج باللقب العالمي الغائب عن خزائن «لا روخا» منذ قذيفة الرسام في ملعب سوكر سيتي في جوهانسبرج قبل 14 عامًا.