ما كان لاعبًا مفضلًا لمزاجي.. ما كنت أدرك أنني أتابع أحد أعظم مهاجمي المنطقة الخطرة في التاريخ.. أتحدث عن ماركو فان باستن، اللاعب الثاني في تاريخ الكرة الهولندية بعد صاحب القدمين العبقريتين يوهان كرويف.. قبل أن يأتي فان باستن إلى قيادة أصحاب القمصان البرتقالية، كان النحس والحظ السيئ يلاحقانهم في كل مكان وطوال التاريخ.. هولندا سيدة فكرة الكرة الشاملة التي زاوجت بين السرعة والاستحواذ والسيطرة الميدانية في وقت مبكر.. هولندا سبقت العالم كله في الفكر الكروي الحديث بإغلاق منطقة المناورة، ومحاصرة الخصوم داخل ملعبهم، والهجوم بأكبر قدر من اللاعبين.. كانت الأقرب والأحق بانتزاع كأس العالم عام 1974 أمام ألمانيا مستضيف المناسبة.. كانت الأقرب والأحق بانتزاع كأس العالم عام 1978 أمام الأرجنتين مستضيف البطولة.. الحظ والتحكيم والضغط الجماهيري الرهيب في المباراتين حرموا كرويف وأبناء جلدته من اعتلاء عرش كرة القدم.. ليس هناك منتخبًا كرويًا عالميًا يتعامل مع كرة القدم كما فعل الهولنديون، وربما هذا تفسير واضح لنجاحات كبيرة حققها المدربون الهولنديون المؤمنون بفلسفة وعمق التعايش مع المباراة كخاتم بين أصابع اليد اليسرى.. يجب أن تكون المباراة بكل ما فيها تحت السيطرة التامة.. لا مجال للتهاون أو المفاجأة.. عرفت فان باستن لاعبًا يكمل الفرقة الثلاثية الهولندية بجوار جوليت وريكارد، دفاعًا عن شعار ميلان الإيطالي مشكلين القوة المرعبة في وجه مارادونا في أيامه النابولية.. ما كان باستن يشغل بالي أو اهتمامي.. كان مجرد مهاجم يمثل فريقًا متسلطًا يسعى فقط لإسقاط أسطورة المستضعفين والهائمين على وجوههم، وكل المارادونيين حول العالم.. معارك دامية وأوقات عصيبة وخصام مدمر ذاك الذي كان بين مارادونا مرتديًا القميص السماوي، والرجال الهولنديين الثلاثة بألوان ميلان المخططة بالأحمر والأسود.. من الطبيعي وفي غفلة التعقل، تحت أغلال الهوى والعاطفة البريئة أن يغيب عنك التعامل مع لاعب استثنائي مثل هذا الشاب الأنيق شكلًا ولعبًا وعطاءً.. ظلمت نفسي وأنا لم أكن أرى في باستن سوى خصم يواجه أسطورتي مارادونا.. وما أكثر ما تغشى أحكام الحب في عوالم كرة القدم كثيرًا من جمال ومتعة لا يمكن رؤيتها إلا بعد فوات الأوان.. في بطولة أوروبا عام 1988 جاء الوقت المناسب للتعرف مجددًا على باستن.. صغيرًا لا أعي بشكل كامل منهجية كرة القدم وأسرارها إلا بالاستمتاع بقدر ما ترك لي الزمن.. نحب بعض اللاعبين لمهارتهم ثم نتعلق بهم، ثم نلاحق حضورهم، ثم نزداد قناعة راسخة بموهبتهم، ثم نطرب لهم، ثم ندافع عنهم وكأنهم قضية الحياة الأولى والأخيرة.. يا لكرة القدم ومساراتها في هذا الكون.. غاب باستن عن المباراة الأولى في كأس أوروبا.. قيل حينها بكلام أوردته الصحافة أن ذاك الغياب لخلاف نشب بينه وبين مدربه.. شارك في المباراة الثانية وسجل ثلاثة أهداف انتصر بها الهولنديون أمام الإنجليز.. يكمل مسيرته المظفرة في البطولة ويسيطر على النجومية ويسجل هدفًا سينمائيًا يعده الكثيرون الأكثر تعقيدًا في سجلات أهداف البطولة الأوروبية.. انتهت البطولة وتصبغت شوارع ميونيخ وأمستردام بالجماهير المحتفلة.. جاء الرجل الذي يهزم الحظ.. جاء فان باستن.. حين تقدم الهولنديون بهدفين تحصل خصمهم الاتحاد السوفييتي على ضربة جزاء، وتقدم لها لاعب سوفييتي يدعى بلانوف.. أهدرها وأهدر معها فرصة العودة مجددًا إلى التعادل والتعويض.. قال المعلق الكويتي خالد الحربان واصفًا الحدث:«بلانوف.. بلا قول»..
تمنحني تلك البطولة الصاخبة درسًا سريعًا في دروب العمر القصير.. محبة اللاعبين لا تعني أن خصومهم سيئين أو لا يستحقون الإعجاب والمتابعة.. درس أعادني للتعرف على فان باستن قبل أن يضطر ذلك الشاب العبقري إلى التوقف رضوخًا لإصابات قاسية فشل الأطباء داخل غرف العمليات في علاجها.. بعمر لم يجتز الثامنة والعشرين توقف باستن بقرار لا يملك تغييره.. قالت الإصابة كلمتها ورفعت الأقلام.. تنتهي قصة لاعب كان في طريقه ليكون أعظم مهاجم في تاريخ أوروبا.. يستسلم ويغادر المشهد وينزوي وراء أحزانه.. يعود إلى الملاعب مدربًا بمسيرة خجولة.. يكتب مذكراته في 318 صفحة بعنوان «حياتي.. حقيقتي».. مكتظة بالحسرة والألم والضيق والدموع.. حين فرغت من قراءة تلك المذكرات عرفت السر وراء الوجه الهادئ الحزين الذي يتلبس باستن.. عينان مكسورتان.. ملامح مجروحة.. ابتسامات نادرة لا تطول.. كل هذا كان نتاج جرح عميق لم يندمل مع مرور السنين.. مذكرات باستن ماهي إلا حفلة طويلة من المآسي الموجعة.. يقول باستن عن حادثة غيّرت مجرى حياته ونظرته للأشياء في وقت مبكر من عمره وهو يرى بعينه الموت يختطف صديقه الصبي جوبي: «كنت صغيرًا ولا أعرف معنى الموت، لقد ركضت لطلب النجدة، لكن عندما أخرجوه من البحيرة كان قد مات».. ويواصل باستن حديثه المفجوع عن صديق طفولته: «كان جوبي يلعب الكرة أفضل مني وكان يكبرني بعام، وحينما مات احتفظت بصورته في جيبي، وبعد عشر سنوات من الحادثة فقدت تلك الصورة وحينما بحثت عنها طويلًا، قال لي والدي لقد أخذتها وأخفيتها، يجب عليك أن تعيش وتنسى».. ويبدو أن هذه الحادثة المميتة خيّمت على عقل باستن طويلًا.. مواقف كثيرة يرويها تجعلك متيقنًا أنها نتاج ما حدث في غرق الصبي الصغير جوبي.. وليس هناك أكثر سوداوية أن يفقد الإنسان صديقًا عزيزًا.. فماذا لو كان هذا الصديق يموت أمام عينيك.. إنها لحظات تشبه الموت تمامًا..
وعن اعتزاله المبكر يصف باستن ما جرى حين أقامت له إدارة ميلان حفلًا تكريميًا ضخمًا: «شعرت بصدمة كبيرة وأنا أشاهد قرابة 80 ألف مشجع في ملعب سان سيرو يصفقون في وداعي، فقلت في نفسي أنتم تصفقون لرجل لم يعد موجودًا، أردت الصراخ والبكاء، لكنني تماسكت وبقيت هادئًا، كانت كرة القدم هي حياتي، وأنا الآن أخسر حياتي، لقد كنت ضيفًا في جنازتي»..
بعد باستن غابت هولندا تمامًا عن ارتقاء منصات التتويج.. تأتي اليوم مجددًا لهثًا وراء أمجاد ضائعة، تحتاج إلى بطل يعرف طرائق الانتصارات الصعبة.. تحتاج إلى رجل حياته مزدحمة بأحزان لا يقدرها أحد ولا يعرفها أحد.. تمامًا مثل باستن هذا.. رجل الانتصارات الكبيرة.. رجل الأحزان الكبيرة..!!
تمنحني تلك البطولة الصاخبة درسًا سريعًا في دروب العمر القصير.. محبة اللاعبين لا تعني أن خصومهم سيئين أو لا يستحقون الإعجاب والمتابعة.. درس أعادني للتعرف على فان باستن قبل أن يضطر ذلك الشاب العبقري إلى التوقف رضوخًا لإصابات قاسية فشل الأطباء داخل غرف العمليات في علاجها.. بعمر لم يجتز الثامنة والعشرين توقف باستن بقرار لا يملك تغييره.. قالت الإصابة كلمتها ورفعت الأقلام.. تنتهي قصة لاعب كان في طريقه ليكون أعظم مهاجم في تاريخ أوروبا.. يستسلم ويغادر المشهد وينزوي وراء أحزانه.. يعود إلى الملاعب مدربًا بمسيرة خجولة.. يكتب مذكراته في 318 صفحة بعنوان «حياتي.. حقيقتي».. مكتظة بالحسرة والألم والضيق والدموع.. حين فرغت من قراءة تلك المذكرات عرفت السر وراء الوجه الهادئ الحزين الذي يتلبس باستن.. عينان مكسورتان.. ملامح مجروحة.. ابتسامات نادرة لا تطول.. كل هذا كان نتاج جرح عميق لم يندمل مع مرور السنين.. مذكرات باستن ماهي إلا حفلة طويلة من المآسي الموجعة.. يقول باستن عن حادثة غيّرت مجرى حياته ونظرته للأشياء في وقت مبكر من عمره وهو يرى بعينه الموت يختطف صديقه الصبي جوبي: «كنت صغيرًا ولا أعرف معنى الموت، لقد ركضت لطلب النجدة، لكن عندما أخرجوه من البحيرة كان قد مات».. ويواصل باستن حديثه المفجوع عن صديق طفولته: «كان جوبي يلعب الكرة أفضل مني وكان يكبرني بعام، وحينما مات احتفظت بصورته في جيبي، وبعد عشر سنوات من الحادثة فقدت تلك الصورة وحينما بحثت عنها طويلًا، قال لي والدي لقد أخذتها وأخفيتها، يجب عليك أن تعيش وتنسى».. ويبدو أن هذه الحادثة المميتة خيّمت على عقل باستن طويلًا.. مواقف كثيرة يرويها تجعلك متيقنًا أنها نتاج ما حدث في غرق الصبي الصغير جوبي.. وليس هناك أكثر سوداوية أن يفقد الإنسان صديقًا عزيزًا.. فماذا لو كان هذا الصديق يموت أمام عينيك.. إنها لحظات تشبه الموت تمامًا..
وعن اعتزاله المبكر يصف باستن ما جرى حين أقامت له إدارة ميلان حفلًا تكريميًا ضخمًا: «شعرت بصدمة كبيرة وأنا أشاهد قرابة 80 ألف مشجع في ملعب سان سيرو يصفقون في وداعي، فقلت في نفسي أنتم تصفقون لرجل لم يعد موجودًا، أردت الصراخ والبكاء، لكنني تماسكت وبقيت هادئًا، كانت كرة القدم هي حياتي، وأنا الآن أخسر حياتي، لقد كنت ضيفًا في جنازتي»..
بعد باستن غابت هولندا تمامًا عن ارتقاء منصات التتويج.. تأتي اليوم مجددًا لهثًا وراء أمجاد ضائعة، تحتاج إلى بطل يعرف طرائق الانتصارات الصعبة.. تحتاج إلى رجل حياته مزدحمة بأحزان لا يقدرها أحد ولا يعرفها أحد.. تمامًا مثل باستن هذا.. رجل الانتصارات الكبيرة.. رجل الأحزان الكبيرة..!!