تشهد ملاعب كرة القدم الألمانية، منذ شهر ديسمبر الماضي، سلسلة مستمرة من الاحتجاجات الجماهيرية، فأغلب مباريات الدرجتين الأولى والثانية منذ ذلك الحين عرفت توقفات متكررة، من أجل إزالة «وسائل الاحتجاج» التي يرمي بها المشجعون على أرض الملعب، فتارة تكون كرات تنس، وتارة تكون حبات شوكولاتة على شكل عملات معدنية، فيما ذهب مشجعو نادي هانزا روستوك نحو أسلوب مبتكر في مباراتهم الأخيرة أمام هامبورج، إذ قاموا باستخدام ألعاب سيارات يُتحكم فيها عن بُعد، وعلى هذه السيارات ألعاب نارية، والنتيجة كانت مجسمات متحركة تسير بين اللاعبين ويخرج منها الدخان.

ويسلك المشجعون حتى اللحظة نهجًا سلميًّا في الاحتجاج، فجماهير أندية عدة اختارت أن تحافظ على صمتها التام منذ صافرة الحكم الأولى، حتى انطلاق الهتافات في الدقيقة 12، لأن هذا الرقم مرتبط بالمشجعين، ولأن المشجع هو اللاعب رقم 12، لكن هذه الاحتجاجات تسلك منحى تصاعديًا، وفترات توقف المباريات تزداد وتزداد، والجواب السهل لأسباب الاحتجاج هو رفض خطة الاستثمار التي طرحتها رابطة الدوري الألماني، لكن ما يحدث هو فصل جديد وصغير في قصة مستمرة وطويلة الأمد، عنوانها معركة بين تشبّث المشجعين بالمبادئ والتقاليد من جهة، وحاجة صنّاع القرار إلى تطوّر عبر أموال المستثمرين من جهة أخرى.

وبعيدًا عن الفصل الجديد من هذه القصة، أي ما يحدث في الملاعب الألمانية خلال الأيام الأخيرة، هناك أسئلة مهمة تطرح نفسها، فلماذا يرفض المشجعون الخطط الاستثمارية؟ ولماذا يتأخر صنّاع القرار في طرح الأفكار وتمريرها؟ خاصة أن الدوري الألماني يُعدّ ضمن ما يسمى بالدوريات الخمسة الكبرى، وأن الدوريات الكبرى الأخرى سارت بعيدًا وبنجاح في ملفات الاستثمار؟ الجواب عن هذه الأسئلة ستقدمه «الرياضية» عبر العودة إلى الجذور، أي الملف القديم الذي يلعب دور البطل في هذه القصة، وهو قانون 50+1

هذا القانون من النظام الأساسي للدوري الألماني ينص على إلزام الأندية بأن ملكيتها لأعضاء النادي، بنسبة أكثر من 50 في المئة، وفي المقابل، منع المستثمرين التجاريين من امتلاك نصف أسهم النادي أو أكثر، على عكس أندية الدوري الإنجليزي مثلًا، والعديد من الأندية في الدوريات الأخرى، التي تعود ملكيتها إلى رجال أعمال، والسبب وراء القانون الألماني هو رياضي بحت، أو بمعنى آخر، السبب هو أن يبقى النادي لأصحابه، وألا تتفوق مصالح المستثمر الشخصية على مصالح النادي الرياضية.

وأصبح قانون 50+1 جزءًا أساسيًا من ثقافة وتقاليد ومبادئ كرة القدم في ألمانيا، وكانت هناك محاولات كثيرة لإلغائه، أو حتى لتعديله، لكن النتيجة كانت دائمًا واحدة، وهي تمسّك الأندية والأعضاء والمشجعين به، ولهذا القانون حسنات كثيرة، منها الارتفاع الهائل في عدد الأعضاء المسجلين في الأندية الألمانية مقارنة بأندية الدوريات الأخرى، والابتعاد عن مشاكل اللعب المالي النظيف، إلا أنّه تسبب في إلقاء ظلال سوداء، فالدوري الألماني والأندية هناك بشكل عام أصبحت بعيدة عن الإمكانات المادية الهائلة في عدد من الدوريات الأخرى، وعلى رأسها الدوري الإنجليزي.

ويرى بعضهم أن محدودية الاستثمار تؤثر في جميع الأندية، باستثناء بايرن ميونيخ كونه ناديًا عالميًا يحقق عوائد ضخمة لقاء نجاحاته على أرض الملعب، ومن العمليات التجارية حول العالم، لكن دورتموند مثلًا كان على مشارف الإفلاس قبل 20 عامًا تقريبًا، وهو النادي الذي يصفه بعضهم بالنادي «البائع»، وهناك أيضًا أبطال سابقون أصبحوا بعيدين عن دوري الأضواء، مثل نورنبيرج وشالكة وهامبورج وكايزرسلاوترن.

وبخصوص ما يحدث حاليًا من احتجاجات في المدرجات الألمانية، فهو فصل جديد لهذه القصة الطويلة، إذ حاولت رابطة الدوري الألماني، التي تضم الأندية الـ 36 الناشطة في الدرجتين الأولى والثانية، تمرير خطة استثمارية جديدة دون المساس بقانون 50+1، عبر بيع 8 في المئة من الحقوق التجارية لمستثمرين، والتصويت الأول على الخطة دار في شهر مايو الماضي، وقوبل بالرفض، قبل أن توافق الأندية عليه في شهر ديسمبر الماضي، فكانت المحصلة بدء الاحتجاجات منذ ذلك الحين.

كخلاصة، يبدو أن هذه القصة ستعرف فصولًا كثيرة، فكلمة المشجعين في ألمانيا قوية جدًا، والدوري الألماني يملك معدل الحضور الأعلى مقارنة ببقية الدوريات حول العالم، ومنذ أعوام، لا بل إن الحضور في دوري الدرجة الثانية يفوق الحضور في مدرجات الدرجة الأولى في فرنسا، ويكاد يعادل أرقام الحضور في الدرجة الأولى في إيطاليا وإسبانيا، كما يبدو أن خطة الاستثمار لن تمر مرور الكرام، فالاحتجاجات مستمرة وفي ارتفاع، وإحدى الشركات قامت بسحب العرض الذي تقدمت به للرابطة من أجل الاسثمار.

لسان حال المشجع الألماني يقول إن المبادئ والتقاليد أهم من كل شيء آخر، وهناك حقيقة ثابتة وهي أن المشجع الألماني هو الرقم واحد من ناحية الحضور والدعم والوفاء في أوروبا، لكن هناك حقيقة أخرى، وهي أن الأندية الألمانية ما عادت تملك الإمكانات المادية لعدد كبير من أندية الدوريات الكبرى الأخرى، ما يؤثر في حضورها قاريًّا، وعلى قدرتها على جلب الأسماء اللامعة، أو إبقاء الأسماء اللامعة، وعلى إغراء المواهب المستقبلية، وفي الأفق أيضًا هناك المنتخب الألماني الذي خسر جزءًا كبيرًا من بريقه في الأعوام الأخيرة.